|
كلّما صادفتُ تلك الصور المخيفة القادمة من اليمن، لأطفال يموتون من الجوع، وقد تحوّلوا إلى ركام من جلد وعظام، ولمواطنين يعانون من الأوبئة وسوء التغذية، ولبلاد دُمّرت كلّ بناها التحتية، فأصبحت شبحا لذاتها، يجتاحني وجعٌ مهول وشعورٌ بالذنب، كيف أن الوجع نفسَه بات له منازل ومراتب وأرستقراطيون وفقراء. فهو هنا، في مقدّمة الصورة، يقيم الدنيا ولا يقعدها، حتى عندما يتعلّق بفرد واحد لا أكثر، وهذا محقّ وشرعيّ. وهو هناك، مرميّ في الخلفية، وراء الستارة، في عمق الكواليس، حيث يسابق "خمسة ملايين طفل يمني الزمن"، بحسب تعبير منظمة اليونيسف، إذ إنهم "قد لا يعيشون لرؤية عام آخر بسبب الحرب"، ويحتاج ثلاثة من بين كل أربعة من سكان اليمن، البالغ عددهم 27 مليون نسمة، مساعدة غذائية، في حين يواجه نحو ثمانية ملايين شخص خطر المجاعة.
"جحيم للأطفال"، هكذا وصفت اليونيسف الحرب في اليمن. والأرقام كافية ومعبّرة: 1.8 مليون طفل يعانون من سوء التغذية، يقف 400 ألف منهم عند بوابة الاحتضار، و8 ملايين لا تتوفر لهم مياه صالحة للشرب؛ 1.1 مليون امرأة حامل سيضعن مواليد سيعانون بعد ولادتهم، الحرمان نفسه الذي عانوه في بطون أمهاتهم؛ ناهيك عن الحصار، وانتشار الأوبئة، وعدم دفع الرواتب، وانهيار العملة المحلية، ورواج السوق السوداء، إلخ.
والحال أننا ندرك هذا كلّه عن الوجع اليمنيّ، ولا تحرّكنا كما يجب كارثة اليمن ومأساة أطفاله، حتى نحن الذين نعلو فوق السياسة، ولا نقف طرفا مع هذا الفريق أو ذاك، ونملك ما يكفي من المسافة النقدية لرؤية الواقع كما هو. ومع ذلك، ثمّة ما يدفعنا إلى تفهّم من لم يعد يريد أن يرى لأنه لم يعد يحتمل هذا الكمّ من الوجع والموت والعذاب والقتل، بلادا إثر أخرى، عاما بعد عام، قارة تلو الأخرى...
في بحثها الذي يحمل عنوان "أمام وجع الآخرين"، والذي يؤرّخ لصور الوجع في تاريخنا الحديث، منذ اللوحات التي رسمت عن المسيح المصلوب، مرورا بعذابات الشهداء المسيحيين الأوائل التي رسمها غويا، وصولا إلى مآسي الحروب الحديثة والإبادات الجماعية، تطرح المفكّرة والباحثة الأميركية، سوزان سونتاغ، سؤالا مزدوجا تموضعه في إطار تاريخي: ما الذي يعنيه تقديم الوجع في صور فوتوغرافية، يُفترض أن تكون "موضوعية"، وما هو نوع النظرة التي تستدعيها لدى المشاهد، في عصرٍ باتت فيه صور الوجع عملة رائجة؟
ضمن هذا الإطار، تبدو صور اليمن الجريح وكأنها تسبّب عسر هضم للناظر إليها، إذ تُشعره، بعد صور سورية وأطفالها النيام قبل أوانهم، وصور موجعة أخرى، بالتّخمة، وبأنه قد بات مكتفيا لا يريد أن يرى المزيد. ومع ذلك، ينبغي التذكير بأن الاكتفاء والامتناع عن رؤية ذلك "المزيد" هما بمثابة تناسي وإهمال كل الذين لا يملكون صوتا، المسلوبة حيواتهم وحقوقهم، والمرميين في مزابل التاريخ. لأطفال اليمن البائسين المحتضرين الحق في احتلال صور تقضّ مضاجعنا وتؤلمنا وتقيم في ضمائرنا، لوجعهم الحق في إقلاقنا، ولوجوههم البائسة أن تدعونا إلى التفكير، ذلك أن كلماتهم التي لا تُقال لن تحيا إلا عبر نظرتنا. ولا بدّ لرؤية صورهم أن تستدعي فينا نوعا من المسؤولية، ولا بدّ لها أن تُخاطب ضمائرنا، أخلاقنا، وأن تذكّرنا بأن من يقول إنه رأى، يوازي أن يقول إنه بات يعرف، وبإمكانه أن يخبر ويشهد.
كيف لا تثير فينا صورُ أطفال اليمن الجياع الذين تحوّلوا إلى هياكل عظمية، هذا كلّه؟ كيف لا نراها حاضرةً، واقعيةً، جارية الآن، مرعبة، مستحيلة؟ كيف لا يخيفنا عددهم، يرعبنا موتُهم المحتوم، بؤسُهم، عجزهم؟ وكأن صور المجاعة والحصار والدمار اليمني لا تنتمي لزمننا هذا، وكأننا قد قسّمنا الوجع زمنيا وطبقيا. فالمجاعة لم تعد من زمننا، لذا لا نرغب برؤيتها، والمجاعة آفة فقراء لا يجدر بهم أن يكونوا من أهلنا.
في الثلاثاء 25 ديسمبر-كانون الأول 2018 10:14:46 ص